11/03/2023 - 22:46

حوار | إضراب الأسرى وإنهاء استعمار الجسد

عجور: "فكرة الإضراب حسب فلسفة الأسرى هي استعادة السيادة على الجسد الذي قام المستعمر بحبسه وسلبه والتنكيل به، والمقاومة هي الوسيلة التي يتم عبرها استعادة السيادة على الجسد، وإعادة الإنسانية الواردة في العنوان".

حوار | إضراب الأسرى وإنهاء استعمار الجسد

وقفة إسناد للأسرى في قطاع غزة (Gettyimages)

في كتابها "استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد"، الذي صدر، مؤخرا، باللغة الإنجليزية، تناقش د. أشجان عجور تجربة إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، بوصفها، كما تقول، من أهم مواقع المقاومة الحّية لمواجهة بنية الاستعمار الاستيطاني، المتمثلة في منظومة السجن في سياق أشكال المقاومة والاحتجاج السياسي اللذين شهدهما التاريخ المعاصر في عدة أجزاء من العالم، وهي تجربة يقوم الأسرى من خلالها، كما تقول، بتحويل الجسد، عبر رفض الطعام، إلى السلاح الأساسي الذي يستخدم في مقاومة منظومة السجن وبنيتها العنيفة.

ويناقش الكتاب الذي ولد كأطروحة لنيل شهادة الدكتوراة والحائز على جائزة "الكتاب الفلسطينيّ" العالمية للعام 2022 لفئة الكتب الأكاديمية، التي تنظمها مؤسسة "ميدل إيست مونيتور"، تجربة أو تجارب الإضراب عن الطعام وما خلفه من أثر مهم في التاريخ السياسي المعاصر، ويقدم عرضا تاريخيا مختصرا لأهم التجارب العالمية، ويحلل الكيفية التي تناول بها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا ظاهرة الإضراب والذات السياسية المرتبطة بهذا النوع من المقاومة.

وفي استعراضها تورد العجور تجربة مناضلي حركة "سفرجيت" في إنجلترا والإضراب عن الطعام في السجون البريطانية، وتجربة غاندي الذي انخرط في العديد من الإضرابات عن الطعام احتجاجًا على سياسات الاستعمار البريطاني، وإضراب الجمهوريين الإيرلنديين عن الطعام خلال الفترة 1917-1920، وكذلك إضراب 1973 عندما بدأ مدانون إيرلنديون في سجن "بريكستون" إضرابًا عن الطعام استمر ثمانية أشهر، ووفاة عشرة من أعضاء الجيش الجمهوري الإيرلندي في إضراب عام 1981، وإضرابات أولريك ماينهوف وأعضاء من الجيش الأحمر في ألمانيا خلال الفترة 1973–1975، ووفاة هولغر ماينز في السجن في عام 1974 بسبب الجوع، وكذلك إضراب 42 عضوًا من جماعة المقاومة المناهضة للفاشية "جرافو" في إسبانيا عام 1989، وإضراب مئات المعتقلين السياسيين في جنوب إفريقيا عام 1990 للمطالبة بإنهاء الاعتقال المفتوح إلى أجل غير مسمى وبالحق في محاكمة عادلة.

وتمر الباحثة على موجة الإضرابات عن الطعام في تركيا، وخصوًصا أحد أكبر هذه الإضرابات في سجن بوكا في عام 1996، وموت 12 أسير خلال الفترة 2000–2001، واختيار مئات اليساريين وغيرهم من المعتقلين الإضراب حتى الموت احتجاجًا على عزلهم في سجون الحبس الانفرادي من "النوع ف"، وموت أكثر من 100 أسير فضلا عن أقارب لهم أضربوا خارج الأسر تضامنًا معهم.

ويتوقف الكتاب عند تجربة فلسطين، فيشير إلى تزامن الإضراب كأداة نضالية مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967. وكان أول إضراب عن الطعام في سجن نابلس في عام 1968، عندما نفذ المعتقلون إضرابًا لثلاثة أيام احتجاجًا على ممارسات الضرب والإهانة التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية ضدهم. وفي عام 1969، نفذ الأسرى في سجن "الرملة" إضرابًا استمر 11 يومًا احتجاجًا على المعاملة المهينة، واستشهد أول أسير نتيجة إضرابه عن الطعام في سجن "عسقلان"، وهو عبد القادر أبو الفحم عام 1970، ثم استشهد راسم حلاوة وعلي الجعفري في العام 1980 في سجن "نفحة"، والشهيد محمود فريتخ في سجن "جنيد" في العام 1984، والشهيد حسين عبيدات في العام 1992 في سجن "عسقلان".

كما يشير الكتاب إلى أنه منذ العام 2012 تتلاحق موجة من "الإضرابات الفردية" التي نفذها بداية أسرى الجهاد الإسلامي، ثم امتدت بعد ذلك إلى أسرى جميع المنظمات السياسية، وكانت هذه الإضرابات احتجاجًا على الاعتقال الإداري.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48"، د. أشجان عجور، لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.

"عرب 48": أهمية الكتاب عدا عن أنه يصدر باللغة الإنجليزية ويساهم بذلك في نقل التجربة الفلسطينية إلى العالم، فهو يؤطر تجربة إضراب الأسرى الفلسطينيين أكاديميًا أيضا...

د. أشجان عجور

عجور: الكتاب هو مساهمة فلسطينية لتجربة الإضراب عن الطعام، وهو يحاول أن يضيء على فلسفة المضربين الخاصة بالحرية، وفلسفتهم حول استخدام الجسد بالمقاومة في المعركة مع الاستعمار. والكتاب يعتمد على رحلة بحث طويلة أجريت خلالها 85 مقابلة مع أسرى محررين، من المعتقلين إداريًا أساسًا، خاضوا تجربة الإضراب عن الطعام.

الأسرى رووا تجاربهم التي خاضوها خلال مقابلات طويلة معهم دامت كل مقابلة ما يقارب الثلاث ساعات، كذلك امتد البحث الميداني على ثلاث جولات وقد بدأته عندما كنت جزءا من حركة التضامن مع إضرابات الأسرى، كما شملت المقابلات أهالي الأسرى ومحاميهم وممثلين عن الحركة الأسيرة امتدت بين 2015-2018.

والبحث أساسًا هو أطروحتي للدكتوراة في دائرة علم الاجتماع في كلية "غولدسميث" في جامعة لندن، والتي قمت بعد ذلك بتحويلها إلى كتاب صدر في لندن.

الكتاب جاء ليعكس الفلسفة التي قدمها المضربون أنفسهم لتحررهم عبر هذه الممارسة المتمثلة باستخدام أجسادهم لرفض مشروع السلب من قبل المستعمر، والمقاومة في هذه الحال هي عملية استعادة لهذه الإنسانية.

وهنا أريد أن انوّه بأن هذه المقاومة هي حالة مستمرة لتحقيق الإنسانية في وجه السلب المستمر الذي يهدف إلى سلبها، إذ إن العنف الاستيطاني والاستعمار الأكبر موجود خارج السجن وعنف السجان هو استمرار له، فيما الإضراب عن الطعام هو أحد أشكال المقاومة التي ابتكرها الأسرى وهي استمرار للمقاومة الموجودة في الخارج.

وفكرة الإضراب حسب فلسفة الأسرى هي استعادة السيادة على الجسد الذي قام المستعمر بحبسه وسلبه والتنكيل به، والمقاومة هي الوسيلة التي يتم عبرها استعادة السيادة على الجسد، وإعادة الإنسانية الواردة في العنوان هي العملية التي تتشكل فيها الذات الثورية، ففي عملية استعادة الإنسانية تتشكل الذات الثورية المضربة ويتحقق وجود الأسرى من خلال عملية التحول من ضحية إلى ذات ثورية فاعلة. عملية التحول من ضحية إلى ذات ثورية فاعلة تُمكن الفلسطيني من مقاومة منظومة السجن عبر جسده لاستعادة السيادة عليه واستعادة الإنسانية المستهدفة.

"عرب 48": غلاف الكتاب له حكاية ودلالة أيضًا...

عجور: غلاف الكتاب صممته ابنتي تالا وهي تدرس الفن ويحمل رمزية أيضا، حيث تتعانق فيه ثلاث زهرات مختلفة، كل زهرة منها لها دلالتها في الثقافة الفلسطينية، الزنبق الأبيض يرمز إلى الألم الذي عاشه الأسرى في مرحلة نقاء الروح، وعباد الشمس الذي يرمز إلى الحرية والثورة والهدف، فيما يرمز النرجس إلى الرحلة في أعماق الذات التي خاضها الأسرى لاكتشاف موارد الذات والقوة. والكتاب تحدث عن رحلة الأسرى بين الزنبق وعباد الشمس والنرجس في رمزية إلى ثلاثية، الحرية والألم وتشكُل الذات.

"عرب 48": قلت خلال احتفال الفوز بـ"جائزة فلسطين للكتاب" إن هذا الفوز هو تكريم للأسرى، لأنه ما كان يمكن صدور الكتاب لولا نضالهم أولا ولولا مساهمتهم وتعاونهم أيضًا...

عجور: صحيح، الكتاب هو ثمرة نضال الأسرى الفلسطينيين، وهو يوثق فصلا مهما في النضال الإنساني العالمي الذي طالما جرى تغييبه، وفي مقدمتها كفاح الأسرى ونضالاتهم في وجه عسف السجن والسجان والذين سجلوا بطولات إنسانية تستحق أن ننحني أمامها.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن السبب الرئيسي الذي دفع بالأسرى إلى المشاركة والتجاوب مع البحث، كما قالوا، إنهم أرادوا أن يوثق هذا البحث معاناتهم، وأن يكون هذا الكتاب شاهدا على ما يجري في فلسطين، وهم توقعوا أن تنقل قصصهم وروايتهم التي تم تشويهها وإسكاتها، وأذكر أن أحد الأسرى الذين قابلتهم قال إن الدعاية الإسرائيلية جعلتنا إرهابيين وعنصريين وانتحاريين، ومن خلال شهاداتنا تلك نريد أن نظهر من هو الإرهابي الحقيقي.

"عرب 48": من المهم وضع كفاح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية في سياق تاريخي كجزء من النضال ضد قوى الاستعمار والاحتلال والظلم في العالم، وطليعة من طلائع المقاومة والكفاح الإنساني من أجل العدل والتحرر والحرية...

عجور: لا يمكن فهم ظاهرة الإضراب عن الطعام بصفتها معركة من دون وضعها في السياق الأوسع لنضال الفلسطينيين ومقاومتهم ضد استعمار استيطاني اقتلاعي قاتل، ولكي نفهم عملية السلب التي تعرض لها الأسير لدرجة أنه استخدم جسده ووصل لهذ المقاومة الراديكالية، فلا بد لنا من وضع نضال الأسرى في السياق، وإطار الاستعمار الاستيطاني هو الإطار الأوسع لفهم تجربة المواجهة بين المستعمِر والمستعمَر التي يتم تكثيفها في معركة الإضرابات، حيث يواجه الأسير بجسده آلة استعمارية، وبهذه المواجهة التي يخوضها بجسده الفردي هو يكثف المقاومة الجمعية.

"عرب 48": تناول البحث الإضراب عن الطعام في إطار تحويل الجسد إلى سلاح أساسي في المعركة غير المتكافئة بين الأسير والسجان، وانتصار الروح والعقل بما يحملانه من "روح" معنوية معززة بالقضية الوطنية الإنسانية التي يكافح الأسير من أجلها وتمده بهذه القوة والصمود الأسطوري...

عجور: الإضراب عن الطعام استخدم من قبل الأسرى كوسيلة احتجاج ومقاومة منذ عام 1967، وقد طرأت عليه تحولات تماشيا مع التحولات السياسية المرتبطة بتطور حركة المقاومة الفلسطينية.

خارج السجن أيضا هناك تراجع في العمل الجماعي لصالح العمل الفردي، أو ما بات يعرف بـ"العمليات الفردية". وما أريد قوله إنه في فترة ما بعد أوسلو وانحسار النضال الوطني الجمعي وتشرذم المنظمات الجمعية ظهرت الإضرابات الفردية، حيث شهدت السنوات العشر الماضية منذ إضراب الأسير خضر عدنان موجة من الإضرابات الفردية التي جاءت كاحتجاج على عمليات الاعتقال الإداري، وعلى شكل إضراب طويل، وصل في المرة الأولى إلى 55 يوما ليتجاوز لاحقا المئة يوم.

صحيح أن الإضرابات الفردية تبدو لأول وهلة كأنها فعل فردي ذاتي، ولكن خطاب الأسرى المضربين يمثل ويعكس الذات الجمعية بحسب تجربتهم الفردية، أي أنها مدفوعة بسياسات ثورية فلسطينية ضد الاستعمار الاستيطاني، كما سياساتهم وخطابهم كانت مختلفة عن خطاب أوسلو الذي كبل المقاومة بفكرة الدولة.

الفكرة هي أنه بالرغم من كون الإضرابات فردية لكنها تنطوي على بعد جماعي عميق، حتى أنها كانت رافعة لتجديد النضال السياسي الجماعي، فكنا نرى أنه عندما يضرب بلال كايد من الجبهة الشعبية، نرى كل الجبهة تتضامن وتضرب معه داخل السجون، أي أن الإضراب الفردي يشكل رافعة لتجديد الإضراب الجماعي ووسيلة لصيانته.

هؤلاء الأفراد الذين يقومون بالإضرابات يشعلون من جديد جذوة النضال الجماعي داخل وخارج السجون، وهم المد الثوري الذي يؤكد أن المقاومة مستمرة لأن وجودنا يكون "ضحية" إذا لم تتوفر المقاومة حتى لو كانت فردية.

"عرب 48": ربما يعكس ذلك فرادة التجربة الفلسطينية بعمقها واتساع مداها السياسي وتنوع دروسها الجماعية والفردية في امتدادها الزمني التاريخي...

عجور: الكتاب يحكي عن فلسفة الإضراب التي سميتها تكنولوجيا الأسرى وإبداعهم، أو تكنولوجيا المقاومة، ومن أهم الأشياء التي أضاءها الكتاب أنه على الرغم من أن الجسد كان السلاح المركزي في المقاومة، لكن بالنسبة لهم العناصر الحاسمة التي ولدت وعززت صمودهم هي العناصر المادية وغير المرئية وهي الإرادة والعقل والروح.

لذلك، من وجهة نظرهم، لا يمكن للمستعمِر التحكم بهذه الموارد غير المادية، وبالنسبة لهم أن لم تنكسر الروح فإنهم لمنتصرون حتما، فعندما نقول العقل فذلك يعني الوعي الثوري بمعنى سياساتهم الثورية المرتبطة بالمقاومة الجمعية وتقرير المصير الفلسطيني، وحتى فكرة الروح هي ليست فكرة هلامية، فالجسد هو البنية التحتية التي تحصل عليها كل عمليات المقاومة وترتقي إلى فكرة الروح والعقل والإرادة.

حاولت الإضاءة على هذه الموارد غير المادية التي تفجرت عند الأسرى، تسليح الجسد وهذا جعلهم يصلون للحرية، وهذه موارد كانت غير قابلة للكسر، فرغم كل أشكال العنف التي مارسها المستعمِر على الجسد لم يستطع أن يكسر روح الأسرى. وبرأيهم، فإنه لم يعد جسدهم هو هدف المستعمر، بل كسر الروح، ولذلك هم قووا الروح على حساب الجسد.

كذلك فإن مفهوم الصمود عندهم هو مفهوم محوري في هذه الثنائيات، وهو الاستمرار في المعركة والاستمرار ومواصلة الإضراب، أما العوامل التي ساعدتهم على الصمود، فهي خطاب المقاومة ومعتقداتهم والثقافة الفلسطينية المقاومة التي شكلت ذواتهم.

"عرب 48": لا ننسى تفاعل الحركة الجماهيرية مع الإضراب عن الطعام وقدرة الأسرى على تحريك الشارع وخلق حالة تضامنية جماهيرية...

عجور: فكرة الدراسة ومن ثم الكتاب جاءت أصلا من كوني قد كنت جزءا من الحركة الجماهيرية المساندة لإضراب الأسرى، أشارك في الاحتجاجات والمظاهرات وعمليات التضامن الأخرى، ومن دون شك فإن حركات التضامن والإسناد لعبت دورا كبيرا في دعم وتعزيز صمود الأسرى.

لقد تحدثوا خلال المقابلات كيف أن التضامن الجماهيري كان بمثابة الرئة التي يتنفسون منها، وأنه عمّق الشعور بأن شعبهم لم يتركهم وحيدين في المعركة، وأصلا فلسفة الإضراب وجوهره هو أن هذا الأسير الذي كان غير مرئي ومقموع أراد أن يظهر لكل العالم، وقد برز هذا التضامن والتعاطف ليس من قبل الشعب الفلسطيني فقط، بل على مستوى العالم أيضًا، وهو ما عزز موقف الأسرى في المفاوضات، وضغط على إسرائيل، التي لا تريد أن يموت أسرى مضربين عن الطعام في سجونها.


د. أشجان عجور: حصلت على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها وعلى درجة الماجستير في النوع الاجتماعي بتقدير امتياز عام 2012، وعملت كمدرسة بدوام جزئي في معهد دراسات المرأة، وتم نشر رسالتها الماجستير بكتاب صادر عن معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان عام 2014، بعنوان: "تمثيلات القوة والمعرفة في خطاب التنظيم النسائي الليبرالي"، ثم حصلت على درجة الدكتوراة من دائرة علم الاجتماع (كلية غولد سميت) في جامعة لندن عام 2019، وفاز كتابها "استعادة الإنسانية في تجربة الإضراب عن الطعام في فلسطين: الذات الثورية وإنهاء استعمار الجسد بجائزة "الكتاب الفلسطينيّ" العالمية للعام 2022 لفئة الكتب الأكاديمية، والتي تنظمها مؤسسة "ميدل إيست مونيتور".

التعليقات